كلنا ننتمى إلى أصول ريفية ونفخر بهذه الأصول، ولكن التقدم يحدث دائماً بتمدين الريف وليس بترييف المدن!، وما نحن فيه من تقهقر اجتماعى وتنكر لمبادئ الحرية والتحضر واحتقار لكل منجزات الغرب التى صدرها إلينا فى زمن التنوير المصرى كله ناتج عن هذا الترييف العشوائى للمدينة.

أحكى لكم عن بعض سمات تمدين الريف أو تلقيحه ببذور المدنية فى الماضى، والتى تختلف تماماً عما يحدث الآن من زحف سمات الترييف، بداية من جلباب المحافظ حتى فصل الأولاد عن البنات فى فصول الحضانة!، فى الماضى غير البعيد وقبل انتشار الجامعات الإقليمية غير المخطط والعشوائى التى تبنى معظمها الآن لحصد شو إعلامى بدون إمكانيات، لدرجة أنها قد أصبحت مدارس ثانوى «فرز ثانى»!، وقتها كان الطالب يترك قريته للذهاب إلى القاهرة أو الإسكندرية ليعود بعدها فى إجازته الصيفية حاملاً بذور اللقاح المدينية ينثرها فى هواء وجلسات القرية، يحدثهم عما سمعه من الشيخ إمام فى الجامعة أو محاضرات زكى نجيب محمود أو جلسة نجيب محفوظ.. إلخ ومنهم من كان يذهب فى بعثة إلى الخارج فيعود معطراً بنور الحضارة ليطرح الأسئلة ويوقظ العقول من سباتها، أما الآن فمعظم الطلبة يخرج من قريته إلى المركز المجاور أو عاصمة المحافظة «فركة كعب» وأستاذه هو جاره فى قريته، الطالب يجتر ولا تضاف إلى معارفه أو عالمه أى مساحات جديدة، فعالمه هو حدود قريته أو بالكثير محافظته، أما البعثات فقد صارت كالعنقاء والغول والخل الوفى مما جعل شبابنا الريفى معظمه مريضاً بكراهية الغرب وعقدة اضطهادهم له وحَبك المؤامرات على دينه إلى آخر هذه الأوهام التى يغذيها عالمه الضيق وتضخمها صعوبة السفر والتأشيرات.. إلخ.

انظروا إلى أطراف الإسكندرية ماذا حدث لها؟، زحف ترييف المدينة أصابها فى مقتل، تم اغتيال المدينة الكوزموبوليتان التى تستوعب الجميع لصالح التيار السلفى الذى لا يرى إلا نفسه كفرقة ناجية.

جلباب محافظ كفرالشيخ الذى ارتداه وهو يتفقد المستشفى ليس هو المشكلة إنما دلالة هذا التصرف الذى انعكس علينا فى تصريحات شيخ قبيلة أو داعية دينى لا مسئول سياسى من أن مهمته هى الهداية والدعوة إلى الله وليست الاستثمارات!، إنه الاهتمام بالشكل على حساب المضمون والغياب التام لدور المسئول السياسى الذى لم ينم إلى علمه بعد أن آخر الأنبياء قد رحل بعد أن أكمل الرسالة وأن أى تقمص لدوره ما هو إلا غيبوبة حضارية وأن مصر ليست دار كفر وأن سكانها ليسوا أبا لهب وأبا جهل!.

المدينة لقحت الريف باحترام الوقت بالثانية لأن الفلاح القديم كان يعرف بعد المغرب أو قبل العشا وكان يرمى البذرة ثم ينام بجانبها منتظراً الفرج أو الغيث، المدينة أو المجتمع الصناعى هو التخطيط، هو المستقبلية، هو التعامل مع المرأة ككيان مستقل حر وليس متاعاً أو جارية، وأعتقد أننا نتقهقر إلى الوراء بترييف المدينة التى تختنق وتتحول إلى قرية كبيرة.